في "انتزاع الكهرمان" يذكرنا حسين شريف بأعظم الشعر حيث الصور مركبة والألوان منغمة والمعاني كبيرة
نتزاع الكهرمان" عنوان قصيدة, وهو عنوان رمزي لقصيدة رمزية. فليس هناك كهرمان ينتزع, وانما هو انتزاع الأمل من اليأس, والجمال من القبح, والحياة من العدم, وليست هناك قصة تروى, ولا مكان يوثق, أو تاريخ يحكى. وانما يتخلق المعنى من أسلوب بناء اللقطات والعلاقات بين اللقطات وبعضها, وبينها وبين الأصوات المصاحبة لها. والرمزية هنا هي الرمزية بالمعنى المذهبي الصحيح. فدرون تجريد, ودون احالة الى خارج ما نراه وما نسمعه, توحي المعطيات الحسية الواقعية وأسلوب صياغة الصور والأصوات بمعانى كثيرة تتجاوز الدلالات المباشرة لتلك المعطيات. وهذه هي الرمزية الحقة.
يصور فيلم "انتزاع الكهرمان" جزيرة سواكن السودانية, وهي جزيرة صغيرة مقفرة تتناثر فيها البيوت والعمائر والاثار القديمة من عصر الاحتلال التركي تشهد بأن هنا كانت حضارة, وكانت ثقافة لها شخصيتها وطابعها المميز. ويتأكد ذلك من خلال صور فوتوغرافية لفريق كرة قدم حيث يبرز تاريخ التقاط الصورة عليها عام 1929, وغير ذلك من صور الحياة اليومية. الى جانب لقطة لتاريخ 1884 محفور على احد الأحجار. ولكن تاريخ جزيرة سواكن واثارها يمثلان البعد الأول لفيلم أو بالأحرى وسيلة لتعبير عن معان أعمق.
انا في بداية العالم ونهايته. في تمام اكتمال الدائرة. نحن أمام تاريخ الانسان وتاريخ العالم, وفي صميم علاقة الانسان بالكون حيث يشرق نور الله على الأرض, ويشرق الانسان على الأرض بنور الله. يبداء الفيلم وينتهي بتراتيل صوفية تقول من بين ما تقول بصوت رخيم وايقاع مهيب, يا فالق الحب والنوى .. ويا قاسم الأرزاق ... ويا كاسر الحيتان في لج بحرها, وطوال الفيلم لا نستمع الا لمثل هذه التراتيل الى جانب من ايات القران الكريم, وبعض من الأغاني الشعبية. ولمرة واحدة فقط نستمع الى حوار سياسي على شريط الصوت عن حاجة الشعب الى الوحدة والى العلم الصحيح.
ويربط شاعرنا بين شريط الصوت وشريط الصورة على نحو جدلي مبتكر, ويوظف المفردات السينمائية التي يتكون منها أسلوبه بحذق وبراعة, فحركة الكاميرا مستمرة منذ اللقطة الأولى مع صوت التراتيل تصور الجزيرة من الخارج في لقطات عامة مصورة من طائرة, ثم تصور بعد ذلك الأطلال القديمة في لقطات والمزج بين اللقطات يوحي بالحركة, واللقطات تتوالى في تكوينات تشكيلية باللون والضوء والكتلة والفراغ.
تتكرر التراتيل في البداية والنهاية ونحن ندخل الجزيرة ونخرج منها ليبقى فالق الحب والنوى وقاسم الأرزاق وكاسر الحيتان في لج بحرها. وتكتمل الدائرة, تكتمل الدوائر طوال الفيلم: رجال يرقصون في دائرة, دائرة فوهة مدفع قديم, دوائر المشربيات, دوائر النقوش, ثم دائرة الشمس, أو الشمس الدائرة. ويسيطر شاعرنا على الايقاع سيطرة مطلقة من خلال المونتاج الدقيق, وحركة الكاميرا المتقنة. فالفيلم مثل سيمفونية من أربعة حركات بطيئة فم بطيئة جدا, ثم سريعة وبطيئة. من بين الأطلال يخرج الانسان وحيدا, وعلى الأطلال يقف رجل وامرأة عاريين.
وتبطء حركة الفيلم ليردد المرتل, شربنا على ذكر الحبيب مدامة سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرموز. وتتابع الكاميرا امرأة جميلة في ملابس سودانية تقليدية تشي بالحضارة والثقافة وهى تصعد درجات طويلة ورأس رجل يتطلع من احدي النوافذ. وفي حجرة أشبه بمذبح كنيسة تدخل المرأة, وهنا تبدو عينها في لقطة كبيرة وقد زينت على الطريقة الفرعونية القديمة. وفجأة نرى المرأة ميتة في قاع البحر, والمياه تشف عن جسدها وهى في كامل ملابسها. وتبدأ الصورة التاريخية.
وتسرع الحركة لنرى البحر يحيط بالمدينة المدمرة في لقطات طويلة. وفي لقطة أخرى طويلة ترقد على الشاطئ امرأة عارية في مقدمة المنظر, ومن بعيد قارب يتسلل داخل المرأة. ويبرز ضابط تركي أبيض في ملابسه العسكرية, ولابسات السواد يولولن على الأطلال, وجثمان محمول الى مقره الأخير يحمله الرجال في ملابسهم البيضاء.
وكما في أفلام تاركو فكى تتابع الكاميرا اثار أشياء كشف ويأتي المسيح الأسود عاريا ويصلب, ولكن غلاله شفافة تجعل الصلب وهما أو سراب. ونراه ينزل من الصليب ويتحرك في الأفق المتوج نحو الشمس: يا خالق الحب والنوى, يا منقذ المسيح من الصليب.
ويختتم الشاعر قصيدته بلقطات بطيئة مكثفة عن عصر العبودية, طوابير الرجال السود تساق والقوارب في الانتظار. وفي احدي اللقطات يبدو الرجال وكأنهم كتل من اللحم بلا هوية. وهو أبلغ تعبير مرئي عن استعباد عبيد المال لعبيد الله قاسم الأرزاق وكاسر الحيتان في لج بحرها.
ان فيلم "انتزاع الكهرمان" من أكثر الفن العربي المعاصر بعثا للدهشة, واثارة للفرحة.
مجلة "البيان" – الكويت
![]() | ||
| التشكيلي والسينمائي حسين شريف |
![]() | ||
| صور من فيلم انتزاع الكهرمان |



ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق